نتيجة الأزمات العالمية بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، سبقتها تعطل سلاسل التوريد بفعل جائحة كورونا، يعاني العالم من ارتفاع غير مسبوق في مستويات التضخم، ما دفع عديد الدول لرفع معدلات الفائدة لمواجهة التضخم.
كما هو متعارف عليه اقتصاديا، تلجأ الدول إلى رفع معدل الفائدة في حال ارتفاع معدلات التضخم وذلك من أجل امتصاص السيولة النقدية من السوق لخفض الطلب على السلع وبالتالي خفض الأسعار.
التضخم يعبر ارتفاع المستوى العام للأسعار لكافة السلع والخدمات، بما يجعل القيمة الشرائية للعملة تنخفض، بمعنى أكثر بساطة أن المائة ليرة (أو دولار) التي كانت تشترى مستلزمات كثيرة على سبيل المثال، لا يمكنها الآن شراء نصف ما كانت تشتريه من قبل جراء ارتفاع الأسعار الذي ينتج عنه زيادة في معدلات التضخم.
وينتج التضخم من حدوث اختلالات بالسوق كأن يكون حجم النقود أكبر بكثير من السلع والخدمات المنتجة بالاقتصاد، وتخفيض معدل التضخم في هذه الحالة يتطلب إعادة التوازن في السوق بزيادة إنتاج السلع أو تقليل السيولة النقدية.
بعد تمسك طويل بأسعار فائدة منخفضة نسبيا عند 8.5 بالمائة، كما يريد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، استجابت تركيا أخيرا لتراجع الليرة وركبت موجة رفع الفائدة من أجل كبح جماع التضخم الذي وصل نحو 60 بالمائة.
فقامت الحكومة برفع الفائدة 4 مرات منذ تشكيل الحكومة الأخيرة وتعيين محافظ جديد للمصرف المركزي لتصل إلى 30 بالمائة.
كان الرئيس أردوغان يصرّ على خفض أسعار الفائدة رغم أن في ذلك مخاطرة كبيرة تهدد في تدهور العملة.
والسبب: يرى أردوغان وخبراء اقتصاديون أن رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم هو علاج مر ولا يحل الأزمة من جذورها بل يعمّقها ويروا أنه يصب في مصلحة أصحاب رؤوس الأموال الذين يحصلون على فوائد مالية على حساب الضعفاء.
عندما تكون نسبة الفائدة مرتفعة، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج والخدمات وبخاصة إذا كان الاقتصادي يعتمد على الائتمان المصرفي بشكل كبير.
كذلك، عندما تكون مرتفعة يمكن أن يتقاعس المستثمرون عن العمل ويتقاعسوا عن فتح مشاريع وتوظيف الناس ورفع معدلات الإنتاج لتلبية زيادة الطلب في السوق.
فبدل ضخها في سوق العمل، يذهب المستثمر ويضع أمواله في البنوك لأنه يحقق منها كبيرة لا يحلم بها في دول كبيرة. وهذا عين الربا في المفهوم الإسلامي وهذا ما يفسر سبب إصرار أردوغان على خفض أسعار الفائدة.
خبراء الاقتصاد المدافعون عن توجه خفض الفائدة يجادلون بأنها العلاج الناجع للمشكلات الاقتصادية على المدى الطويل. أردوغان يريد من الناس أن تعمل وتحرك عجلة الاقتصاد، تصنع وتصدّر وتوظف الناس، لذلك يلجأ لخفض سعر الفائدة.
ولو نظرنا في بنوك الاقتصاديات المتقدمة، نرى أن أسعار الفائدة عندها منخفضة جدا مقارنة بتركيا، حتى أن بعضها قبل الأزمة العالمية الحالية، كان يطلب أجرا على عمليات الإيداع لديه، بدلا من تقديمه أسعار فائدة مرتفعة كحال بعض الدول.
يريد أردوغان تسريع معدلات النمو الاقتصادي من أجل رفع صادرات بلاده وسد العجز في الميزان التجاري الذي هو معضلة تركيا.
فرغم ارتفاع صادرات تركيا لمستويات قياسية لا يزال هناك عجز في الميزان التجاري؛ أي أن وارداتها أكبر من صادراتها.
فما سبب العجز التجاري في تركيا رغم وصول الصادرات التركية مؤخرا لأعلى مستوى تاريخي لها على الأطلاق، حيث زادت الصادرات بنسبة 40 بالمائة بحسب وزير التجارة التركي.
المعضلة في عجز الميزان التجاري في تركيا هي القيمة الباهظة لفاتورة الطاقة التي تبلغ سنويا قرابة 40 مليار دولار والتي زادت أسعارها مؤخرا على مستوى العالم.
تركيا تعتمد على استيراد احتياجاتها من النفط بنسبة كبيرة تقدر في بعض الأحيان بنحو 90 بالمائة.
إلى جانب هذه العوامل، هناك أيضا عوامل سياسية، فالأوضاع الإقليمية أدت إلى اصطدام تركيا بالسياسات الأمريكية في بعض الملفات الخاصة بالمنطقة.
رغم هذه الأوضاع والوقائع من انخفاض في سعر العملة ورفع معدلات الفائدة لا داعي للقلق. يبقى هناك تفاؤل كبير بشأن مستقبل تركيا. فما يميز الاقتصاد التركي أنه اقتصاد متنوع، فيه قاعدة إنتاجية قوية تمكنه من تحقيق معدلات نمو عالية.
أيضا كرست تركيا جهودا لمعالجة معضلة عجز الميزان التجاري التي هي السبب الرئيسي في الأزمة
قبل أكثر من عام أعلن أردوغان عن اكتشاف كميات من الغاز الطبيعي في البحر الأسود وهذا من شأنه أن يوفر من فاتورة الطاقة الأساسية من البترول والغاز الطبيعي.
كما لجأت تركيا لمشاريع لبناء محطات للطاقة النووية السلمية من أجل توليد الكهرباء، أبرزها مشروع محطة "أق قويو" النووية التي يتم بناؤها بالتعاون مع روسيا.
أيضا في قطاع التكنولوجيا والتسليح، شهدت تركيا نهضة تركيا كبيرة. فقد زادت صادراتها من الأسلحة خلال السنوات الخمس الماضية بنسبة 30 بالمائة.
لدى تركيا طائرة بيرقدار المسيرة ذائعة الصيت الطائرة التي جذبت اهتمام دول عربية وأوروبية، خاصة أن أثبتت نجاحا هائلا في العمليات العسكرية.
أيضا هناك قطاع صناعة السيارات الكهربائية. فقد أطلقت تركيا أول سيارة كهربائية محلية الصنع للمنافسة في الأسواق المحلية والعالمية.
سبق أن صرح أردوغان أنهم يهدفون لجعل تركيا أكبر مركز عالمي لصناعة السيارات الكهربائية ومن أكبر مصانع البطاريات.
أيضا لا ننسى حجم صادرات تركيا من السيارات، فسنويا تصدر تركيا أكثر من مليون ونصف مليون سيارة يذهب معظمها إلى ألمانيا تليها بريطانيا ثم فرنسا.
ولا يمكن إغفال الطفرة التي حققتها تركيا في الخدمات والبنى التحتية ما جعلها محط اهتمام وجذب للمستثمرين والناس المهتمين بالإقامة فيها بغض التعليم أو العلاج.
تمتلك تركيا، ولا سيما مدنها الكبيرة، شبكة واسعة متنوعة ومتطورة من وسائل النقل، ومطارات كبيرة، أبرزها مطار إسطنبول الذي يصنف ضمن أكثر المطارات ازدحاما في العالم.
ناهيك عن المدن الطبية الحكومية التي تنشأها تركيا بالشراكة مع اقتصادات كبرى متقدمة، فضلا عن الجامعات والمدارس والروضات الحكومية والخاصة، والمدن السكنية الذكية الحديثة المقاومة للزلازل والكوارث الطبيعية.